في رحلة السعي وراء أغلى لآلئ الطبيعة في العالم العربي

الصورة الرئيسية:Empress Eugénie

الإعداد: Joe Challita


لطالما سعى الإنسان وراء الترف والجمال والثروة والنفوذ على مدى قرون من الزمن. وفي عالم مليء بالكنوز المخفية، يبرز لؤلؤ المياه المالحة كواحد من أندر الجواهر التي يمكن إيجادها في أعماق البحر. وقد تألّق الأباطرة والملوك والمهراجا والملكات عبر العصور باللؤلؤ الفاخر، وهذا ما تظهره لنا اليوم لوحات من التاريخ التي تزيّن المتاحف في جميع أنحاء العالم. ومن أعماق المحيطات حيث كان الغوّاصون يستخرجون اللؤلؤ منذ آلاف السنين، إلى أيدي تجّار الخليج المشهورين، وصولاً إلى الحرفيّين البارعين؛ تنكشف قصة آسرة عن أحد أروع كنوز الطبيعة وملك الجواهر – لؤلؤ المياه المالحة في الخليج العربي.

على مرّ العصور، سحر اللؤلؤ الحضارات القديمة، ولا سيما ذلك الذي يأتي من الخليج العربي. على عكس الجواهر الأخرى، يُعتبر اللؤلؤ مثاليّاً لأنّه يتشكّل في الطبيعة بدون أن يخضع لأي معالجة، وهذا ما يجعله هدية حقيقية من الطبيعة للبشرية. وقد لعب اللؤلؤ الذي يشتهر ببريقه ولونه ونقاوته دوراً مهماً عبر التاريخ، حيث أنّه شكّل محطّ اهتمام الأثرياء والأقوياء. فالملكة المصرية كليوباترا، التي اشتهرت بحبّها الكبير لكلّ ما هو فاخر ونادر، مثل الحرير المصبوغ باللون الأرجواني الملكي المستخرج من محار الموريكس، قد اختارت أيضاً أن تتزيين باللؤلؤ. وكان يُعرف أنّها تمتلك اثنتين من أغلى وأكبر حبّات اللؤلؤ في العالم على شكل قرطين؛ وبحسب رواية المؤرّخ الروماني Pliny فقد قدّمت كليوباترا أغلى وأفخم عشاء في التاريخ لـ Marc Anthony، حيث سحقت حبّة لؤلؤ من أحد قرطيها وأذابتها في الخل وشربته. أمّا في الأساطير اليونانية، يُعتقد أن اللآلئ هي دموع الفرح التي ذرفتها Aphrodite، بينما ربطها المصريّون بـIsis، كرمز للشفاء. وفي الهند، يُقدّر اللؤلؤ باعتباره إبداعاً طبيعياً. وبما أنّه كان يدلّ على القوة والثروة والنقاوة، أصبح اللؤلؤ مرغوباً جداً بين النبلاء كرمز للمكانة الاجتماعية.

وفي منطقة الخليج، يعود تاريخ الغوص لصيد اللؤلؤ إلى الألفية الأولى قبل الميلاد، حيث بلغت هذه الصناعة ذروتها في القرنين التاسع عشر والعشرين مع ارتفاع الطلب على لؤلؤ الخليج وبخاصة في البحرين وقطر، والذي اشتراه زبائن من الهند وروسيا وأوروبا الغربية ومصر والولايات المتحدة الأميركية. لكن كان الغوص لصيد اللؤلؤ عملاً محفوفاً بالمخاطر، حيث جاب الغواصّون البحر أشهراً طويلة. وباستخدام حبلين فقط، اعتادوا الغوص إلى عمق يتراوح بين 20 و45 متراً ولمدّة تتراوح بين الدقيقتين والثلاث دقائق، ليكرّروا هذه العملية حتى 200 مرة. ولا شكّ في أنّ هذا العمل الشاق كان له أيضاً جانب سلبيّ، حيث أنّ بعض الغواصين لم يعودوا للأسف إلى ديارهم بعد تعرّضهم لحوادث مأساويّة، ممّا يظهر المخاطر والتحديات المرتبطة بهذه المهنة القديمة. وفيما جمع الغواصّون آلاف المحار، احتوى القليل منها فقط على اللؤلؤ الذي يأتي بأشكال وألوان ودرجات لمعان مختلفة. فبعضها كرويّ أو على شكل دمعة أو زر مع جانب واحد مسطح أو غير متماثل. وكلّما كانت حبّة اللؤلؤ متناسقة، كلّما ارتفعت قيمتها. وتاجر اللؤلؤ الذي يُسمّى بالطواش هو الذي يمتلك الخبرة والمعرفة لتصنيف اللؤلؤ وتقييمه حسب حجمه وشكله ولونه وبريقه، وذلك باستخدام مجموعة من المناخل أو الطوس لتصنيفه بأحجام مختلفة. وتبقى اللآلئ المثالية والمتطابقة نادرة جداً، فقد يستغرق التجار سنوات للعثور على لآلئ متطابقة في الحجم واللون لإكمال سوار مثلاً أو قلادة؛ وهذا ما يجعلها باهظة الثمن.

AL FARDAN

 

Alamy

يقدّم متحف قطر الوطني في صالة عرض "اللؤلؤ والاحتفالات"، تشكيلة غنيّة من القطع الأثرية المزدانة باللؤلؤ والتي تمتدّ من العصر الروماني حتى يومنا هذا. ومن بين هذه الكنوز قلادة من سبعة جدائل، كانت تملكها ذات يوم عائلة Kinskys الشهيرة، وهي عائلة بارزة ترجع أصولها إلى العام 1200 في المملكة البوهيمية (أي جمهورية التشيك الحديثة). ومن بين القطع البارزة أيضاً بروش على شكل عقدة من الألماس ومزيّن باللؤلؤ يحمل توقيع دار Chaumet وكان ملك الإمبراطورة Maria Theresa ملكة بوهيميا والمجر. كما يمكن إيجاد الكثير من التيجان الفاخرة التي تظهر مدى اهتمام نبلاء أوروبا بلؤلؤ الخليج الذي لطالما اعتُبر رمزاً للأناقة والرفاهية في المناسبات الرسمية. وازدادت شهرة التيجان بين النساء النبيلات في القرن الثامن عشر، وتطوّرت إلى إكسسوارات أيقونية مرادفة للرقي الأرستقراطي في أواخر القرن التاسع عشر. ومن أبرز التيجان، ذلك الذي ارتدته الإمبراطورة Eugénie والذي قدّمه لها زوجها Napoleon الثالث عام 1853 كهدية زفاف. يحمل التاج توقيع Gabriel Lemmonier ويتألّف من 212 حبّة لؤلؤ وحجر ألماس بالإضافة إلى لآلئ على شكل دمعة.

Alamy
Francesca Cartier Brickell

Jacques Cartier's pursuit of pearls in Bahrain 1912

وقد جذب السعي وراء الجمال والفخامة الكثير من الحرفيّين وصانعي المجوهرات من أهمّ الدور الأوروبية أيضاً إلى شواطئ الخليج. ومن بينهم، صانع المجوهرات الفرنسي الشهير Jacques Cartier الذي انطلق في رحلة مهمّة عام 1912 إلى أرض البحرين الغنية باللؤلؤ. وتقتبس Francesca Cartier Brickell إحدى بنات أحفاد Cartier ومؤلّفة كتاب The Cartiers في منشور لها على إنستغرام من إحدى رسائل Jacques إلى أخيه، "عزيزي Louis، إذا فهمت بشكل صحيح، فإن المهمة الأبرز الموكلة لي خلال هذه الرحلة إلى الشرق هي استكشاف سوق اللؤلؤ وتقديم تقرير عن الطريقة الأكثر فعالية بالنسبة لنا لشرائه." ومن خلال تعمّقه في ثقافة البحرين الحيويّة، بنى Cartier علاقات مع العائلات والتجّار المحليّين، ووثّق تجربته الغنيّة من خلال صور آسرة تجسّد جوهر استكشافاته وإعجابه بتراث اللؤلؤ في الخليج. فتقول Brickell: "السبب الحقيقي لقدومه هو استكشاف تجارة اللؤلؤ الذي كان آنذاك من أثمن الأحجار في العالم." وقد أدّت هذه العلاقة الجوهرية بين الحرفيّين الأجانب والتجّار الخليجيّين إلى بناء صداقات والربط بين الثقافات والقارّات، وهي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. تشرح Brickell أيضاً أنّ رحلة Jacques لم تتعلّق بالعمل فقط، فكان فعلاً مهتمّاً بالثقافة المحلية بحيث اعتاد الاجتماع بالسكان المحليّين وتناول الطعام معهم. ومن خلال الجهود التعاونية، أقام تجّار المجوهرات الغربيّون علاقات دائمة مع تجّار الخليج، ممّا أدى إلى تعزيز إرث من التبادل الثقافي والاحترام المتبادل. وتستمرّ هذه التحالفات التاريخيّة في التأثير على ممارسات العصر الحديث، حيث لا تزال العلامات التجارية تستورد اللؤلؤ الخليجي، ممّا يظهر التأثير الدائم لهذا التعاون بين الثقافات على صناعة المجوهرات. ففي مطلع القرن العشرين، ابتكرت دار Van Cleef & Arpels قطعاً استثنائيّة تتبع نهج حركة "المجوهرات البيضاء" التي اشتهرت في تلك الحقبة. وتتميز هذه الإبداعات باستخدام البلاتين والألماس واللؤلؤ في الكثير من الأحيان. كما استُخدم اللؤلؤ لتغطية إكسسوارات ثمينة بأسلوب آرت ديكو، بالإضافة إلى المشابك والأقراط. كما كانت الدار مفتونة بلؤلؤ الباروك، حيث استخدمته في إبداعاتها الاستثنائية مثل تصميم جسد المصارع في العام 1956.

Alamy -Cleopatra
 

وفي منطقتنا العربيّة، لطالما برز اسم عائلة الفردان صاحبة "مجوهرات الفردان" في صناعة اللؤلؤ في الخليج، فتقول غادة الفردان، الرئيس التنفيذي ونائب رئيس "مجوهرات الفردان" في الإمارات العربية المتحدة: "تعود قصّتنا إلى أكثر من مئة عام، عندما انطلق جدّي إبراهيم الفردان في رحلة في مياه الخليج العربي الدافئة والصافية وأصبح تاجر لؤلؤ يتعامل في السلعة ذات القيمة العالية الوحيدة القابلة للتداول في منطقة الخليج آنذاك. كان شغفه باللؤلؤ والأشياء الجميلة لا مثيل له، وقد توارثناه عبر الأجيال ممّا جعل عائلتنا خبيرة اللؤلؤ الأبرز في منطقة الخليج".

ويصادف هذا العام الذكرى السبعين لتأسيس "مجوهرات الفردان"، وهذه محطّة مهمّة ليس فقط لعائلة الفردان ولكن أيضاً لمنطقة الخليج بأكملها. فهي بمثابة تكريم لتراث اللؤلؤ الغني في المنطقة، والإرث الثقافي الذي يزرع الفخر في الأجيال القادمة. وتؤكّد السيدة الفردان: "بالنسبة إليّ، هناك شيئان قيّمان في منطقتنا يحدّدان هوّيتنا: التمر الذي يأتي من أراضينا، واللؤلؤ الذي يأتي من بحارنا."

ولطالما ساهمت مجموعة الفردان في دفع التنمية الاقتصادية والثقافية في منطقة الخليج. حيث قدّمت المبادرات الرائدة مثل معرض المجوهرات والساعات الذي لم يعرض تميّز العلامة التجارية فحسب، بل أكسب أيضاً صناعة المجوهرات في المنطقة تقديراً عالمياً. وتضيف السيدة الفردان: "من جذورنا في صناعة اللؤلؤ، نمت عائلتنا لتصبح واحدة من التكتلات الاقتصادية الرائدة في الشرق الأوسط. منذ تأسيس أول متجر لـ"مجوهرات الفردان" قبل 70 عاماً، بنينا أسساً نمت عليها أعمالنا - لنصبح الخيار الأول للمجوهرات في المنطقة." ومن خلال التعامل مع المجتمعات المحلية، تعمل العلامة التجارية بنشاط على تعزيز الوعي بتراث اللؤلؤ في الخليج. من المعارض إلى المنشورات التعليمية، تبقى مجموعة "مجوهرات الفردان" ملتزمة بالحفاظ على هذا النسيج الثقافي الغني ومشاركته. وتؤكّد السيدة الفردان: "ومع الخبرة المتراكمة التي اكتسبناها على مر السنين، أصبحنا نشتهر كخبراء عالميّين رائدين في مجال اللؤلؤ الطبيعي، وتعكس أعمالنا الحرفية العالية والبراعة الفنيّة والإتقان في صناعة اللؤلؤ." بفضل تراثها العريق ومجموعاتها الرائعة من اللؤلؤ، وصلت مجموعة الفردان إلى آفاق جديدة تزامناً مع الذكرى السبعين لتأسيسها، من خلال تعاونها المرموق مع العلامة التجارية العالمية Tiffany & Co.. وتستمرّ العائلة في المحافظة على تراثها في صناعة اللؤلؤ، وهو تراث كان له تأثير كبير في منطقة الخليج بأكملها، كما في الالتزام بالتقاليد وتعزيز المشاركة الوثيقة في أعمال العائلة للأجيال القادمة. فتقول السيدة الفردان: "مجوهرات الفردان هي تذكير قويّ بجذورنا – منذ بداياتنا وحتى تطلّعاتنا المستقبلية فيما نواصل النمو بعد السنوات السبعين الماضية. ويبقى الحفاظ على تراث العائلة من خلال الشركة العائليّة التي تضم ثلاثة أجيال تعمل معًا، أعظم نقاط قوّتنا".

اقرئي ايضًا:Dior تكشف عن قصة آسرة مع إطلاق أحدث مجموعة مجوهرات لها Étoile des Vents

Qatar Museum

في العام 1929، أثّر الكساد الاقتصادي العالمي بشكل كبير على الطلب على اللؤلؤ، مما أدى إلى تراجع الصناعة في الخليج. ثمّ تفاقم الوضع في العام 1930 مع تزايد شعبية اللؤلؤ الاصطناعي، والذي يمكن إنتاجه بكميات كبيرة وبتكلفة أقلّ. وقد وجّه هذا التحول نحو اللؤلؤ غير المكلف خلال الأوقات الصعبة ضربة أخرى لهذه الصناعة. ونتيجة لذلك، انهارت تجارة اللؤلؤ في الخليج في نهاية المطاف، ممّا أجبر الناس على البحث عن وسائل بديلة لكسب العيش. فتقول السيدة الفردان: "في ذلك الوقت، كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت لتوها، وواجهت تجارة اللؤلؤ لدينا تحديات صعبة مع ظهور اللؤلؤ الياباني الاصطناعي وتعطيل مسارات تجارة اللؤلؤ التقليدية. في ذلك الوقت، قرّرت عائلتي الانتقال إلى تجارة التجزئة والتصنيع في مجال اللؤلؤ والمجوهرات للمساعدة في الاستمرار في العمل. لكن كما نرى اليوم، فإن تجارة اللؤلؤ تعود أقوى من أي وقت مضى." وتتجلّى رسالة الأمل والتفاؤل بالمستقبل هذه مع شخصيات مثل Francesca Cartier Brickell ، التي تكرّم أيضاً تراثها وإرث عائلتها. ومن خلال تتبع خطى والد جدّها إلى الشرق الأوسط, وإعادة التواصل مع العائلات التي بنى علاقات معها، هي تجسّد الاستمرارية والحوار بين الثقافات. وتشكّل هذه المبادرات الأساس الذي سيساعد في الحفاظ على تراث صيد اللؤلؤ للأجيال القادمة.

Van Cleef & Arpels

 

وممّا لا شكّ فيه أنّ تراث اللؤلؤ في الخليج العربي عبارة عن نسيج غني مُحاك بخيوط التاريخ والجمال. من أعماق البحر، حيث يتحدى الغواصّون المياه الباردة وصولاً إلى أيدي الحرفيّين الماهرين، نرى تأثير اللؤلؤ على الأجيال. واليوم، لا تزال هذه التقاليد القديمة تأسرنا، ولا يزال تراث اللؤلؤ في الخليج مستمراً، ليذكّرنا بفخامة تلك الكنوز الطبيعية الثمينة وقيمتها الخالدة. 

اقرئي ايضًا:حصريًا لماري كلير العربية، الفيديو الإبداعي الأول لـ Roger Vivier وLaura Dern

 

اكتب الكلمات الرئيسية في البحث